ترامب وإعادة تشكيل النظام العالمي- أوروبا وروسيا في عالم متعدد الأقطاب

المؤلف: د. جمال قاسم09.14.2025
ترامب وإعادة تشكيل النظام العالمي- أوروبا وروسيا في عالم متعدد الأقطاب

كشفت المقابلة التي جمعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنظيره الأوكراني في رحاب البيت الأبيض عن تحوّلٍ لافتٍ في السياسة الخارجية الأميركية، لا سيما فيما يتعلّق بالعلاقات المعقدة بين الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك في طبيعة الدور الأميركي في حماية القارة الأوروبية واستمرار دعمها لأوكرانيا في ظل الظروف الراهنة.

لم تقتصر أهمية المقابلة على فحواها السياسي، بل تعدّتها لتكشف عن أسلوب دبلوماسي أميركي متغطرس لم يعهده البيت الأبيض من قبل، متجاوزًا بذلك حدود اللباقة والأعراف الدبلوماسية الراسخة. ومن المحتمل أن يسجل التاريخ هذه المقابلة كنقطة تحوّل محورية في إعادة صياغة الأولويات السياسية الخارجية للولايات المتحدة، وبالتالي في تشكيل نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، حيث تتخلى الولايات المتحدة عن دور "الشرطي العالمي" الذي اضطلعت به منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في بداية التسعينيات.

يبذل الرئيس ترامب جهودًا مضنية لتغيير مسار أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وهو تغيير لم تشهده الولايات المتحدة في تاريخها الحديث منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

ترامب والترتيبات الأمنية لما بعد الحرب العالمية الثانية

لطالما انتهج الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية سياسة خارجية قائمة على العزلة السياسية، والابتعاد التام عن الصراعات الأوروبية، والتركيز على تنمية وتطوير القدرات الداخلية للولايات المتحدة.

استمرت سياسة العزلة هذه لفترة طويلة، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى، حيث انخرطت الولايات المتحدة في الحرب بعد سنتين من بدايتها. وبعد انتهاء الحرب، عاد الجنود الأميركيون إلى بلادهم، وعادت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى تبني سياسة العزلة الدولية، والنأي بالنفس عن الصراعات الأوروبية وغيرها في أنحاء العالم.

كان الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربر الأميركية الشرارة التي أطلقت مشاركة الولايات المتحدة المباشرة في الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى قلب موازين القوى ورجحان كفة الحلفاء، وإلحاق خسائر فادحة بألمانيا واليابان وحلفائهما، الأمر الذي تُوّج باستسلامهم ونهاية الحرب.

عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، تخلت الولايات المتحدة الأميركية عن سياسة العزلة الدولية وتبنت سياسة دولية جديدة، تقوم على لعب دور "الشرطي العالمي"، وتقديم الدعم للقوى الدولية الحليفة لبناء مؤسسات ومنظمات دولية، مثل الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة "الغات" للتجارة العالمية (التي تطورت لاحقًا لتصبح منظمة التجارة العالمية)، لتشكّل بذلك ملامح النظام الدولي الذي استمر منذ ذلك الحين وحتى وقتنا الراهن.

ومن بين الترتيبات الدولية التي التزمت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية تجاه حلفائها في أوروبا الغربية، توفير مظلة حماية عسكرية لهم من خلال حلف الناتو، الذي يُعتبر أقوى تحالف عسكري دولي، وتلعب فيه الولايات المتحدة دورًا محوريًا.

وبعيدًا عن الضجيج الإعلامي المصاحب لتصريحات الرئيس ترامب، يتضح أن الأخير يدرك تمام الإدراك التكلفة المالية الباهظة التي تتكبدها الولايات المتحدة لقيادة العالم، وخاصة في حماية أوروبا، ومواجهة روسيا، وغيرها من التحديات العالمية.

لقد فاز ترامب بالانتخابات الرئاسية الماضية، بفضل تبنيه شعار "أميركا أولًا" و "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، ولعل هذا الشعار يمثل إعلانًا رسميًا غير مباشر من الرئيس ترامب بأن عصر الهيمنة الأميركية قد ولى، مما يفتح الباب على مصراعيه لظهور قوى دولية جديدة تسعى لملء الفراغ الذي سيتركه غياب الدور العسكري الأميركي في القارة الأوروبية ومناطق أخرى من العالم.

لا شك أن هذه التغييرات ستثير تساؤلات جوهرية لدى العديد من الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، حول تقييم المواقف الأميركية الأخيرة من الحرب في أوكرانيا وإمكانية إعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين أميركا وروسيا.

لقد أدركت أوروبا أن حقبة الحماية الأميركية ربما شارفت على نهايتها، وبالتالي يتعين عليها اتخاذ خطوات عملية سريعة وحاسمة لتشكيل قوة دفاعية أوروبية مستقلة لمواجهة الأطماع الروسية التوسعية تجاه أوروبا.

هل تستطيع أوروبا تشكيل كتلة عسكرية خاصة بها؟

تبدو أوروبا في وضع لا تُحسد عليه وهي تحاول استكشاف كيفية التعامل مع الرئيس الأميركي ترامب. فهي من جهة لا ترغب في قطع علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية، ومن جهة أخرى لا تستطيع بمفردها تحمل الأعباء المالية الضخمة لحماية القارة الأوروبية، ودعم المجهود الحربي، ومواجهة روسيا في أوكرانيا دون دعم أميركي قوي.

لقد بادرت فرنسا بعرض المساهمة في تزويد أوروبا بمظلة نووية تحميها وتردع روسيا عن شن أي هجمات عدوانية مستقبلية، كما التزمت بمواصلة دعم أوكرانيا حتى ولو تخلى الرئيس ترامب عن أوكرانيا وأوروبا بشكل كامل. وأبدت فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى رغبتها في إرسال قوات حفظ سلام دولية لمراقبة أي اتفاق لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وهو الأمر الذي ترفضه روسيا بشدة في الوقت الحالي.

لقد بدأت بالفعل آثار توجهات سياسة ترامب الخارجية تجاه أوكرانيا وروسيا تظهر في دفع أوروبا للإعلان عن زيادة غير مسبوقة في ميزانية الدفاع والأمن الوطني، مما سيزيد من مساهمتها في حلف الناتو العسكري.

ومن المؤكد أن الحرب الأوكرانية ستشكل نقطة تحول في الإنفاق العسكري الألماني، حيث زادت ألمانيا إنفاقها منذ بداية الحرب الأوكرانية إلى حوالي مئة مليار دولار أميركي. وستسعى الحكومة القادمة في ألمانيا إلى مواصلة زيادة الإنفاق العسكري والاقتصادي لدعم مظلة الدفاع الأوروبية في ظل المخاوف المتزايدة من مستقبل حلف الناتو.

ولولا وجود تشريع من الكونغرس الأميركي يمنع الرئيس الأميركي من الانسحاب من حلف الناتو العسكري بشكل منفرد دون الرجوع إلى الكونغرس، لكان ترامب قد وجد الطريق ممهدًا للانسحاب منه في وقت مبكر.

تمتلك أوروبا خيارات عديدة أخرى يمكنها من خلالها مساعدة أوكرانيا، على الرغم من المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تعاني منها القارة العجوز. فعلى سبيل المثال، يمكنها مصادرة الأصول المالية الروسية (المقدرة بحوالي 200 مليار دولار أميركي) لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، إلا أن مثل هذا القرار سيثير حفيظة روسيا وسيكون له عواقب وخيمة.

سر العلاقة بين ترامب وبوتين

في الماضي، كان أي تقارب أميركي روسي يُعتبر بادرة أمل في تحقيق الاستقرار للأمن العالمي وإشاعة السلام. وعلى الرغم من أن دعوات الرئيس ترامب لتحسين العلاقات مع روسيا ورفع العقوبات الاقتصادية عنها، ووقف الحرب في أوكرانيا لتجنب نشوب حرب عالمية ثالثة، تبدو أمرًا جيدًا، فإن هذا التقارب بين الرئيسين ترامب وبوتين يبدو في ظاهره مثيرًا للريبة ويُثير مخاوف جمة، بدلًا من أن يبعث الأمل لدى العديد من الأطراف الدولية الفاعلة.

تبدو العلاقة الوطيدة بين ترامب وبوتين محيرة للعديد من المراقبين والساسة الأميركيين. ففي حين لا يدخر الرئيس ترامب وسعًا في الرد بقسوة على أي خصم سياسي أو حتى ناشط سياسي، نجده يتحفظ بشكل ملحوظ في توجيه أي انتقاد للرئيس بوتين، بل إن سياسته تجاه الحرب في أوكرانيا تبدو متوافقة إلى حد كبير مع الاستراتيجيات الروسية.

فعلى سبيل المثال، كثف ترامب ضغوطه على أوكرانيا لإرغامها على الرضوخ لشروط السلام مع روسيا من خلال تجميد المساعدات الأميركية لها، الأمر الذي سيشكل خطرًا كبيرًا على سير العمليات العسكرية فيها، إلا إذا تراجع ترامب عن قراره، أو تدخلت الدول الأوروبية بقوة لتعويض فقدان الدعم الأميركي لأوكرانيا.

سيحاول الرئيس الروسي استغلال التقارب الأميركي لفك الحصار الاقتصادي والعزلة الدولية المفروضة على روسيا دون تقديم أي تنازلات جوهرية في الحرب الأوكرانية، وربما يتمكن من الاحتفاظ بجزء من الأراضي التي احتلتها قواته في أوكرانيا، مما سيعزز المخاوف الأوروبية من التوسع الروسي.

لا شك أن مواقف الرئيس ترامب الجديدة تجاه أوكرانيا وروسيا ستدفع أوروبا إلى أن تكون أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة، كما ستجعل من روسيا قوة دولية لا يستهان بها، قادرة على خوض الحروب واقتطاع أراضي الدول الأخرى دون رادع أو عواقب وخيمة.

لقد بدأ ترامب ولايته الثانية بتفكيك أسس النظام العالمي الذي أسسته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي اعتنت به وحافظت عليه لعقود طويلة، جعلت منها "الشرطي الآمر والناهي".

وإذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن، فسنشهد نشأة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يضم الولايات المتحدة، وروسيا، وأوروبا المستقلة عن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الصين، ودول أخرى ستسعى جاهدة لإيجاد موطئ قدم لها في هذا العالم متعدد الأقطاب، مثل الهند، والبرازيل، وتركيا.

تكمن خطورة التعامل مع ترامب في ولايته الثانية في كونه يشعر بإفراط في الثقة بقدرته على حل العديد من المشاكل الداخلية للولايات المتحدة الأميركية، وكذلك المشاكل العالمية المعقدة، اعتمادًا على رؤية سياسية لا تخضع للتدقيق والمراجعة من قبل فريق استشاري متمرس، كما كان الحال خلال فترة ولايته الأولى.

ربما يكون بمقدور ترامب أن يقرر ما إذا كانت الولايات المتحدة ستحافظ على الترتيبات الأمنية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن لن يكون بوسعه التحكم الكامل في كيفية تشكل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

وستكشف السنوات القادمة ما إذا كان ذلك النظام (في حال قيامه) سيخلق عالمًا يسوده الأمن والاستقرار، أم سيكون أشبه بالنظام العالمي في فترة ما بين الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، حيث كان التنافس الدولي والأطماع الاستعمارية في أوج نشاطهما.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة